التأثير الإسلامي في الحضارة الغربية |
. |
|
من يقرأ في تاريخ عصور الحضارة الإسلامية المزدهرة سيدرك أن تبعيتنا للغرب اليوم ليس لأنه الأفضل أو الأذكى بل لأننا أدرنا ظهورنا لحضارتنا وثقافتنا وتركناها للآخرين الذين أخذوا بها وبنوا حضارتهم على أسسها، فأمسينا نحن الضعفاء وأصبحوا هم الأقوياء؛ فصرنا لهم تبعاً.
بمعنى آخر نحن أمة لها تراث عظيم وثقافة راقية في ظل دين لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.. ولهذا تطور الغرب مستفيداً من حضارتنا وتراثنا أكثر من استفادته من ماضيه وتراثه.
وبما أن كثيراً من المسلمين يجهلون تاريخهم ومجدهم الماضي فليس غريباً أن يعرضوا عنه ويلهثون وراء ما لدى الأمم الأخرى..
وفي التقرير التالي صور من تأثير الحضارة الإسلامية على الغرب في شتى المجالات، وكيف كان أسلافنا قدوة وقادة للعالم ثقافياً وعلمياً..
قوة الثقافة الإسلامية
لم تقتصر آثار الجهود الدعوية التي بذلها المسلمون في عصر الحروب الصليبية تجاه النصارى على البلاد الإسلامية فحسب بل امتدت آثارها إلى أوروبا نفسها منطلق العدوان الصليبي الحاقد على البلاد الإسلامية. حيث تفاوتت هذه الآثار قوة وضعفاً بين الجهات الأوروبية، فبينما كانت أكثر وضوحاً في الجهات الجنوبية من أوروبا وفي الممالك النصرانية المحاذية للمسلمين في الأندلس فإنها أقل وضوحاً من الجهات الشمالية والغربية من أوروبا.
مما يدل على قدرة الثقافة الإسلامية على صد أي عدوان وتحويله لصالحها، وما كان ذلك ليتم لولا قوة التمسك بالإسلام والعمل على تطبيقه بين عموم المسلمين أولاً ثم نشره في أصقاع الأرض.
كما يدل هذا الأمر على مدى اعتزاز المسلمين بدينهم وثقافتهم وحضارتهم؛ مما أكسبهم الثقة بالنفس في نشر الدين وإعمار الدنيا بشتى العلوم.
ومن مظاهر هذا التأثير الإسلامي على الغرب:
- تأثر بعض الأوروبيين بشيء من العادات والتقاليد الإسلامية
ففي صقلية – حيث كانت السلطة والدولة للنصارى فيها بعد أن كانت للمسلمين - امتدت آثار الجهود الدعوية المختلفة إلى نصارى هذه البلاد، فمنها على سبيل المثال تقليد بعضهم للمسلمين في اللباس والنظافة، بل وصل الأمر بالبعض منهم إلى اعتناق الإسلام، فمما شاهده المؤرخ ابن جبير – حسب ما نقل عنه الصلابي - في حاضرة صقلية من ذلك قوله: ".. وزي النصرانيات في هذه المدينة زي نساء المسلمين، فصِيحات الألسن، ملتحفات منقبات".
ومما يتصل بذلك انتشار بعض الأزياء الإسلامية في أوروبا في تلك الفترة والتي منها ما يحتفظ باسمه العربي إلى وقت الحاضر كأنواع من القمصان والمعاطف والعباءات وغيرها. بل إن بعض القادة الأوروبيين كانوا يقلدون قادة المسلمين في اللباس وبعض العادات،أمثال روجر الثاني وفريدريك الثاني في صقلية، والفونسو السادس ملك قشتالة، وغيرهم.
ومن الشعائر الإسلامية - التي تشبه النصارى بالمسلمين فيها كذلك - غسل الميت، خاصة في الممالك النصرانية بالأندلس؛ ولذلك فإن بعض الكتاب الأوروبيين عدّ الحروب الصليبية من أهم أسباب امتداد النفوذ الإسلامي في أوروبا واكتساحه الكامل آسيا الصغرى وبلاد الشام، وقد كان قبل هذه الفترة جزء كبير من آسيا الصغرى ينتمي إلى الكنيسة اليونانية مع وجود بعض الدويلات النصرانية في الشام.
- إعجاب بعض القادة الأوروبيين بالحضارة الإسلامية
ومن الأمثلة على هؤلاء القادة روجر الثاني أحد ملوك صقلية الذي استحضر كثيراً من الكتب العربية وأمر بترجمتها وكان يجل العلماء المسلمين ويقدرهم، فكان الإدريسي إذا جاء إلى مجلسه أكرمه واحترمه ووسع له.
ومن ملوك صقلية المعجبين بالحضارة الإسلامية كذلك الإمبراطور فريدريك الثاني الذي كان متأثراً بكل ما هو عربي، وكان يجيد اللغة العربية كما كانت لغته الأم. وخلال طفولته كان على علاقة بقاضي المسلمين في مدينة بالرمو الذي قدم له عدداً من الكتب العربية في مختلف العلوم.
وكان الإمبراطور فريدريك كثير الاتصال بالملك الكامل في مصر بشأن بعض المسائل العلمية، ومن ذلك مثلاً إرساله بعض الأسئلة إليه ليجيب العلماء المسلمون عليها. ثم محاوراته العلمية مع أحد سفراء الملك الكامل إليه والذي كان من العلماء المسلمين في مصر.
ومن القادة النصارى الذين أعجبوا بالحضارة الإسلامية بعض ملوك الدول النصرانية في الأندلس، فقد كان الفونسو السادس في طليطلة يحب العلماء المسلمين، بل إن أكثر مستشاريه ومعاونيه من المسلمين..وكذلك ألفونسو العاشر ملك قشتالة كان مقرباً للعلماء المسلمين ومستخدماً لهم في كثير من المهام.
- حسن معاملة بعض قادة أوروبا للمسلمين الخاضعين لحكمهم
ومن ذلك مثلاً ما لقاه المسلمون في صقلية من تسامح وهدوء تحت سلطة بعض حكامها كروجر الثاني الذي قال عنه ابن الأثير:.. سلك طريق ملوك المسلمين.. وخالف عادة الفرنج، فإنهم لا يعرفون شيئاً منه، وجعل له ديوان المظالم ترفع إليه شكوى المظلومين، فينصفهم ولو من ولده. وأكرم المسلمين، وقربهم ومنع عنهم الفرنج، فأحبوه".
وشاهد المؤرخ ابن جبير جانباً من الأوضاع الحسنة للمسلمين في صقلية تحت حكم فريدريك الثاني؛ ففي حاضرة صقلية قال ابن جبير عن أوضاع المسلمين: .. وللمسلمين بهذه المدينة رسم باق من الإيمان يعمرون أكثر مساجدهم ويقيمون الصلاة بأذان مسموع، قد انفردوا فيها بسكناهم عن النصارى.
وقال: وأما المساجد فكثيرة لا تحصى، وأكثرها محاضر لمعلمي القرآن.
وعن حسن معاملة النصارى للمسلمين في هذه المدينة قال ابن جبير:.. وطوائف النصارى يتلقوننا فيبادرونا بالسلام علينا ويؤنسوننا، فرأينا من سياستهم ولين مقصدهم مع المسلمين ما يوقع الفتنة في نفوس أهل الجهل.
وكان المسلمون المقيمون في القسطنطينية في هذه الفترة ينعمون بشيء من الحرية وإظهار شعائرهم الدينية، وكان لهم جامع يؤذن ويصلى فيه..ولم يقتصر الأمر على تمتع المسلمين في بعض الدول النصرانية بالحرية والأمن، بل إن أعداداً منهم بلغت حظوة ومكانه لدى بعض القادة النصارى.
ومن ذلك مثلاً ما ذكره ابن الأثير عن روجار الثاني صاحب صقلية من أنه اتخذ رجلاً من أهل الصلاح يستشيره ويقدمه على الرهبان ويكرمه؛ ولذلك يتهم بأنه مسلم.
وأما فريدريك الثاني فقد قال عنه ابن جبير: وهو كثير الثقة بالمسلمين وساكن إليهم في أحوالهم والمهم من أشغاله.
وقال عنه أيضاً: أما فتيانه الذين هم عيون دولته وأهل عمالته في ملكه فهم مسلمون، ما منهم إلا من يصوم الأشهر تطوعاً وتأجراً ويتصدق إلى الله.
وهكذا، فإن هذه الأوضاع الحسنة للمسلمين في بعض الدول النصرانية قد كان للجهود الدعوية المبذولة من المسلمين في هذه الفترة أثر كبير في تحقيقها كما كان للنموذج الإسلامي الأخلاقي في التعامل والحكمة الذي قدمها المسلمون أثر واضح.
- اهتمام كثير من علماء الغرب بثقافة الشرق
تأثر كثير من علماء الغرب بالمستوى الراقي للحضارة الإسلامية وتعرفوا على علماء أفذاذ في مختلف العلوم واستفادوا منهم فائدة عظيمة. ومن هؤلاء أديلا ردأوف بات الذي زار الأندلس في النصف الأول من القرن الثاني عشر الميلادي، ثم سافر إلى مصر وآسيا الصغرى، واطلع على كثير من العلوم في البلاد الإسلامية. وانتقلت بواسطته إلى الغرب معلومات مهمة عن الشرق الإسلامي.
وكذلك لبونارد فيوناش الذي زار مصر والشام، وكان معاصراً لفريدريك الثاني ملك صقلية. وجيرارد الكريموني الذي قدم من إيطاليا سنة 545هـ، وبقي في طليطلة حتى وفاته سنة 582هـ -1187م. وكان له جهود كبيرة في الترجمة، حيث ترجم أكثر من مائة كتاب من الكتب الإسلامية إلى اللاتينية.
وكان للأسقف رايموند الذي تولى أسقفية طليطلة بين سنتي 526هـ و547هـ دور كبير وجهود بارزة في ترجمة الكتب العربية إلى اللاتينية والتشجيع على ذلك. بل إنه كان يتولى رئاسة طائفة من المترجمين عرفت بمدرسة المترجمين الطليطيين.
وكانت أعداد كبير من العلماء الأوروبيين اهتمت بالترجمة من الثقافة العربية الإسلامية إلى اللغات الأوروبية في الحياة الفكرية في أوروبا الغربية.
وقد قال كاتب غربي عن أثر ما نقله هؤلاء العلماء الأوروبيين عن المسلمين عن طريق الترجمة: وقد أحدثت هذه التراجم كلها في أوروبا اللاتينية ثورة عظيمة الخطر، ذلك أن تدفق النصوص العلمية من بلاد الإسلام واليونان كان له أعمق الأثر في استثارة العلماء الذين بدأوا يستيقظون من سباتهم.
وقال:.. كذلك أثارت هذه التراجم عقل أوروبا وحفزته إلى البحث والتفكير.
ولقد أثرت المفاهيم الإسلامية في الأوروبيين، وكان لابد من أن يحدث توسعاً في علوم الدين وفي تعديل أفكار العلماء عن الإله.
وشاع لدى النصارى في بعض مناطق أوروبا خاصة في الممالك النصرانية في الأندلس بعض الكلمات العربية ذات المدلول الديني الإسلامي، ومن ذلك مثلاً قولهم : DIS DIOS QUIERE ومعناه: قول المسلم: إن شاء الله.
ويتردد كثيراً في أحاديثهم OJALA للتعبير عن العجب أو الدهشة وما شابه ذلك، ومعناه الحرفي ما شاء الله. كذلك بعض ألفاظ التحية والسلام وغير ذلك.
وفي صقلية وجنوب إيطاليا انتشرت عملات نصرانية كتب عليها آيات قرآنية منها قول تعالى: }هو الذي أرسل رسوله بالهدي ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون{ [سورة الصف، آية: 9]. وكانت علامة أحد ملوك صقلية : "الحمد لله شكر لأنعمه"..
- تأثر النصارى باللغة العربية
كان البعض من الصليبيين الذين قدموا من أوروبا وعاشوا فترة في البلاد الإسلامية قد اكتسبوا اللغة العربية، و لم ينس هؤلاء - عند عودتهم إلى بلدانهم - اللغة العربية التي اكتسبوها في البلاد الإسلامية، وما نقلته مفرداتها إليهم من بعض المفاهيم الدينية عن الإسلام، والتي كانوا يجهلونها قبل ذلك، فنقلوها هم بدورهم إلى أفراد مجتمعاتهم في البلاد الأوروبية.
ولكثرة المتحدثين باللغة العربية في بعض البلاد الأوروبية ولكثرة المقبلين على تعلمها اتخذت لغة رسمية في بعض المناطق بجانب اللغات العربية. ففي صقلية كانت اللغة العربية إحدى اللغات الثلاثة التي أقرتها الدولة في سجلاتها بجانب اليونانية واللاتينية.
وفي بعض المناطق التي زحف عليها النصارى في الأندلس - كطليطلة وقرطبة والمناطق الشمالية والغربية وغيرها - كانت هناك لغتان (الإسبانية والعربية)، بل إن بعض المفكرين الأوروبيين المتعصبين تأسف كثيراً على هجر كثير من النصارى لغتهم اللاتينية وولعهم باللغة العربية وثقافتها.
ولم يقتصر الإقبال على اللغة العربية من عامة الناس في أوروبا، بل إن أعداداً من القادة الأوروبيين تعلموها وتحدثوا بها رغبة منهم في الإطلاع على الحضارة الإسلامية. ومن أبرز هؤلاء روجر الثاني وفريدريك الثاني في صقلية، وقد قال ابن جبير عن الأخير: ومن عجب شأنه أنه يقرأ ويكتب بالعربية.
ولذلك فإن شيوع اللغة العربية نسبياً في المجتمعات الأوروبية وكثرة الإقبال على تعلمها جعل أحد رجال الدين النصارى في مجمع فينا 710ه - 1311م يدعو إلى إنشاء ست مدارس لتعليم اللغات الشرقية في أوروبا.
ولهذا الانتشار للغة العربية في أوروبا تسللت مئات الكلمات العربية إلى اللغة الأوروبية خاصة اللغتين الإنجليزية والإسبانية.
- فقدان الثقة بالبابا ورجال الدين
كانت الكنيسة مهيمنة على الحياة العامة في أوروبا محاربة لكل ما يهدد هذه الهيمنة من الملوك أو المفكرين، فالبابا - وهو رأس الكنيسة - أصبحت بيده السلطة الدينية وحتى السياسة في هذه الفترة؛ مما جعل المعاصرين يعتبرونه ملك الملوك وأمير الأمراء؛ لنفوذه القوي على ملوك أوروبا في تلك الفترة. فكان من حق البابا أن يفرض الضرائب على رعايا الملوك، وأن يحولها إلى روما، وكانت صكوك الغفران وصكوك الحرمان أداة للضغط بيده في مواجهة معارضيه.
وهذه الهيمنة الدينية والسياسية لسلطة الكنيسة تضاءلت كثيراً في أوروبا بعد نهاية الحرب الصليبية، وقد قال أحد الكتاب الغربيين عن ذلك: .. وعظم سلطان الكنيسة وعلت مكانتها إلى أبعد حد بسبب الحملة الصليبية الأولى ثم أخذت تضعف بالتدرج بسبب الحملات التي تلتها.
ويؤكد الصلابي أنه كان للجهود الدعوية المختلفة التي بذلها المسلمون في هذه الفترة من سفارة ورسائل ورسل ومخالطة وكتابة ولقاءات وجهاد أثر كبير في ذلك.
ومع مرور الوقت قلت هيبة الكنيسة ومكانتها في نفوس العامة وأدركت الشعوب الأوروبية كذب ما يدعيه البابا من أنه نائب عن الله في الأرض وأنه معصوم عن الخطأ، فقلّت الثقة به وسائر رجال الدين النصارى.
ومن الشواهد على ذلك مثلاً: أنه عندما دعا بعض الرهبان في أوروبا إلى حملة صليبية جديدة سخر الناس منه، وعِمد بعضهم إلى توزيع الصدقات على الفقراء باسم محمد - صلى الله عليه وسلم - على سبيل السخرية من هؤلاء الرهبان؛ وذلك لاعتقادهم أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - تفوق على المسيح في هذه الحروب.
بل إن بعض المثقفين والكتاب وحتى رجال الدين الذين بدأوا بنقد بعض معتقدات الكنيسة الخاصة بالتثليث والعشاء الرباني وصكوك الغفران وغيرهما اعتمدوا على شيء من أقوال علماء المسلمين في ذلك.
كذلك ظهرت بعض الجماعات والفرق الدينية في أوروبا التي تنادي بمحاربة الفساد المستشري بالكنيسة، بل والدعوة إلى معاداة رجال الدين وانتقاد بعض الطقوس النصرانية.
ومن ذلك مثلاً قيام أحد رجال الدين في جامعة أكسفورد في بريطانيا في هذه الفترة بحملة ضد بعض العقائد النصرانية، حيث كان له أتباع ومؤيدون، وكان من أقواله: إنه ليس ثمة ما هو أشبه بالوثنية من القربان عند المذبح.
ورجل آخر - يدعى أبلار - في الفترة نفسها نحى منحى عقلياً في تفسير بعض المعتقدات النصرانية، وكان له أتباع ومؤيدون؛ الأمر الذي أغضب رجال الكنيسة في عصره حتى كفروه.
وكان قد ألف كتاباً عن التثليث خالف فيه الاعتقاد السائد في عصره، بيّن في مقدمته أنه كتبه لطلابه قائلاً: لأنهم كانوا على الدوام يبحثون عن المعقول وعن الشروخ الفلسفية ويسألون عما يستطيعون فهمه من الأسباب لا عن الألفاظ دون غيرها. ويقولون: إن من العبث أن ينطق بألفاظ لا يستطيع العقل تتبعها، وأنه لا شيء يمكن تصديقه إلا إذا أمكن فهمه أولاً. إن من أسخف الأشياء أن يعظ إنسان غيره بشيء لا يستطيع هو نفسه أن يفهمه ولا يستطيع من يسعى لتعليمهم أن يفهموه.
وقد أثار صاحب كتاب (قصة الحضارة) إلى كثرة المشككين في هذه الفترة في صحة بعض المعتقدات الكنسية وطقوس الديانة النصرانية؛ وأن ذلك مرده بشكل كبير إلى تأثير ما ترجم من الكتب العربية إلى اللغات الأوروبية.
وقال أيضاً في موضع آخر عن ذلك:.. ولقد لاحظنا من قبل وجود نزعة عدم الإيمان بين أقلية ضئيلة من سكان أوروبا وزادت هذه الأقلية في القرن الثالث عشر على إثر اتصال الأوروبيين بالمسلمين عن طريق الحروب الصليبية وتراجم الكتب العربية؛ ولما تبين الأوروبيون وجود دين عظيم أخرج رجالاً عظاماً مثل صلاح الدين.. كان ذلك في حد ذاته كشفاً اضطربت له نفوسهم.
وإشارة إلى شدة ضعف الكنيسة وانحسار نفوذها في المجتمع الأوروبي بعد الحروب الصليبية قال أحد الكتاب الغربيين:.. لقد فشل البابا نقولا في إثارة الغرب بعد سقوط طرابلس، كما أنه كان بالغ العجز بعد الكارثة الكبرى التي حلت بعكا.
وبطبيعة الحال فإن هذا العجز راجع إلى اضمحلال مكانة الكنيسة ورجال الدين لدى طبقات المجتمع الأوروبي مقارنة بالقوة التي كانت عليها الكنيسة عند بدايات الحروب الصليبية وتأثيرها البالغ في حشد مختلف قوى المجتمع الأوروبي ضد المسلمين.
وثمة دروس وعبر وفوائد من دعوة المسلمين للنصارى في عصر الحروب الصليبية، ذكر الصلابي منها:
* وجوب الحذر من كيد أعداء الإسلام في كل زمان ومكان وإن اختلفت الوسائل وتنوعت الأساليب.
* أهمية العلماء في نهوض الأمة ووجوب الدعوة إلى الله على بصيرة.
* أهمية العمل الدؤوب وعدم استعجال النتائج خاصة في المجال الدعوي.
* إن المقاومة الهادئة للغزاة على منهج سليم أساس النجاح والانتصار على الأعداء وتحصين الصف الداخلي.
* للأقليات الإسلامية في ديار الغرب رسالة مهمة؛ ولذلك وجب الاهتمام بها لتحقيق الأهداف المرجوة على المدى الطويل.
* إن بقاء المسلمين في أوطانهم وعدم تركها أمام زحف العدو من أهم أسباب بقاء الإسلام فيها ومن ثم رحيل العدو منها.
* إن التصميم على المطالبة بالحق وعدم التنازل عنه حتى في حالات الضعف من أهم أسباب تحصيله.
* أهمية تأليف الكتب العلمية لأحياء الأمة وتقرير العقيدة، وبيان السنة، وإبراز محاسن الإسلام وإبطال شبهات الأعداء حوله بمختلف اللغات.
* ضرورة إعداد المتخصصين بمعرفة شبهات الأعداء حول الإسلام وأساليبهم وطرق الرد عليهم وتعميم الثقافة الإسلامية.
* أهمية التزام المسلمين بأحكام دينهم وأثر ذلك في نشر الإسلام وقبوله لدى الآخرين.
* خطورة الاختلاف والتناحر على الأمة وأثر الوحدة في عزتها وقوتها.
* عدم القنوط واليأس مهما كبرت الرزايا وكثرت الفتن.
وفي الأندلس كان من الأسباب التي دفعت مملكة أرغون المسيحية إلى توثيق الصلات مع غرناطة الإسلامية والعالم الإسلامي هو إدراكها - على عهد ملكها جيمس الثاني - أن صلاتها مع العالم الإسلامي بوجه عام يكفل لها رفاهاً اقتصادياً ويعينها على حاجاتها. وهو منهج اعتمده الملك منذ السنة الثانية من حكمه عندما وقع اتفاقية صلح مع سلطنة المماليك في مصر في 19 صفر سنة 692 هـ/ 28 يناير 1292م على الرغم من عقوبة الحرمان التي كانت تصدرها البابوية بحق كل من يتاجر مع المسلمين.
طب المسلمين في أوروبا
ومن مظاهر تأثير الحضارة الإسلامية في أوروبا اعتماد الأوروبيين على علم المسلمين في الطب، وقد تحدث الدكتور إبراهيم بن محمد الحمد المزيني – في مجلة التاريخ العربي – عن دور العلوم الطبية الإسلامية في تطور علم الطب عند الأوروبيين.
حيث نقل شهادات غربيين ومسلمين تؤكد ذلك، منها:
ما كتبه خوسيه لويس بارسلو في بحث - ألقاه في المؤتمر العالمي الأول عن الطب الإسلامي، الذي عقد في دولة الكويت - تحت عنوان (أثر العلوم الإسلامية في تطور الطب)، حيث قال:
إن الأهمية الحقيقية والحاسمة للعلوم الإسلامية في الماضي تكمن في أثرها في تطور الطب في المستقبل. فبفضل الإسلام، وجدت القواعد الحالية لعلوم الطب. ولقد حان الوقت لنعرف مثل هذه الحقائق، وأن يحتل العالم الإسلامي مكانته الصحيحة في حقل العلم إحقاقا للحق. ففي عام 953م أرسل أوتو العظيم ملك الألمان سفيرا من لدنه إلى قرطبة، إلى راهب يدعى جون الذي عاش ما يقرب ثلاث سنوات في عاصمة الخلافة الأندلسية. وقد تعلم العربية بإتقان. وعند عودته إلى موطنه حمل معه مئات المخطوطات الطبية والعلمية القيمة، والتي ساعدت على نشر جوهر علوم العرب العظيمة في أوروبا الغربية بصورة سريعة ومدهشة.
وفي احتفال أقيم في جامعة برلين بألمانيا، أشار الدكتور غريسيب رئيس فرع الطب فيها إلى فضل العلماء المسلمين على الإنسانية في علم الطب فقال: أيها الطلاب المسلمون، والآن قد انعكس الأمر، فنحن الأوروبيين يجب أن نؤدي ما علينا تجاهكم. فما هذه العلوم إلا امتدادا لعلوم آبائكم، وشرحا لمعارفهم ونظرياتهم، فلا تنسوا أيها الطلبة تاريخكم، وعليكم بالعمل المتواصل لتعيدوا مجدكم الغابر، طالما أن كتابكم المقدس، عنوان نهضتكم، ما زال موجوداً بينكم وتعاليم نبيكم محفوظة عندكم، فارجعوا إلى الماضي لتؤسسوا للمستقبل. ففي قرآنكم علم وثقافة، ونور ومعرفة، وسلام عليكم يا طلابنا إن كنا في الماضي طلابكم.
ويضيف الأستاذ جلال مظهر - في كتابه (حضارة الإسلام وأثرها في الترقي العالمي) - قائلاً: كان المسلمون في خلال القرن التاسع الميلادي قد تمثلوا واستوعبوا استيعاباً تاماً المعارف الطبية التي خلفها القدماء، وخاصة اليونان، واستطاع الأطباء المسلمون في أقصر وقت ممكن أن يجلسوا على عرش الطب وحدهم، ويميزوا أنفسهم باعتبارهم حاملين لواء هذا العلم، والمسؤولين عن تقدمه وارتقائه في خلال العصور الوسطى برمتها. ولقد بقي تأثيرهم في بعض الحالات إلى عصر النهضة وبعده أيضاً. والحق أنهم تفرقوا على اليونان. وتدلنا جميع الوثائق التاريخية على أن جميع الأطباء والمؤلفين الأوروبيين في الطب في القرون الوسطى استقوا معظم كتاباتهم وأهمها عن العرب لا عن اليونان.
ويذكر الدكتور علي عبد الله الدفاع - في كتابه (لمحات من تاريخ الطب عند المسلمين الأوائل) - أن هناك إجماعاً بين مؤرخي العلوم على أن ما قدمه العلماء المسلمون الأوائل في حقل الطب يعتبر الأساس المتين للطب الحديث. ويؤكد ذلك الأستاذ قالدستون الذي أورد في مقالته (مكتشف الطب في بلاد العرب) أنه مما لا يقبل الجدل أن المعلومات التي وصلت إلينا من أطباء العرب هي في الحقيقة الحجر الأساسي للطب الحديث؛ ولولا هذه الإسهامات العظيمة، لما وصل الطب الحديث إلى المستوى الذي وصل إليه.
ويقول الأستاذ روم لاندو في كتابه (الإسلام والعرب): لم يوسع المسلمون في دراستهم وبحوثهم الطبية آفاق الطب فحسب، بل وسعوا المفاهيم الإنسانية على وجه العموم. وإذا كان من واجبنا أن نعتبر فلق الذرة والقنبلة الذرية رمزاً لأروع المنجزات العلمية في منتصف القرن العشرين، فلن يبدو من مجرد المسافة أيضاً أن تكون جهود المسلمين الطبية المبكرة قد قادتهم إلى اكتشاف لا يقل عن هذا الكشف الذري ثورية.
ونقل المزيني عن الدكتور عبد العزيز عاشور – في مقالة له في مجلة (العالم الإسلامي) الطبية الصادرة في لندن - حديثه عن أوربا في العصور المظلمة ودخول الطب الإسلامي إليها، ودور الأندلس في نشر الوعي الطبي بين الأوروبيين. فذكر الكاتب أنه في الوقت الذي كانت فيه الإمبراطورية الإسلامية في عصرها الذهبي، كانت أوروبا الغربية تعيش في ظلام وبربرية؛ وكانت الكنيسة تتحكم في الطب؛ وكان الدجالون والمشعوذون هو الذين يعتمد عليهم المرضى في العلاج. فقد أصاب سقوط الإمبراطورية الرومانية أوروبا كلها بالشلل، واختفت المدارس الرومانية الوحيدة في أوروبا، وحلت محلها مدارس كنسية لم تهتم كثيراً بالعلوم الطبية.
ومما بلغ حداً واسعاً في التأثير هو تلك المؤلفات الطبية الإسلامية التي لقيت اهتماماً كبيراً من الأوروبيين وترجمت إلى مختلف اللغات الأوروبية. واستمرت تلك المؤلفات قروناً عدة كانت خلالها هي المصادر الأساسية التي يعتمد عليها الأوروبيون في تعلم الطب سواء بأصولها العربية أو بترجماتها. يقول رونلد كامبل في كتابه (الطب العربي): "لقد بقيت جامعات أوروبا تستند تماماً على إسهامات علماء العرب في الطب، بل إن مقرراتهم في كليات الطب بقيت تستعمل (القانون) لابن سينا و(الحاوي) للرازي وغيرهما حتى نهاية القرن السادس عشر الميلادي".
كما طغى تأثير أطباء المسلمين على العالم الغربي عبر القرون اللاحقة، وبالأخص خلال الفترة من القرن الخامس إلى الثامن الهجري (الموافق الحادي عشر إلى الرابع عشر الميلادي). فقد بقي علماء أوروبا يتعلمون في مدارس وجامعات الأمة الإسلامية في الأندلس وصقلية وغيرها، حتى تمكنوا من اللغة العربية. ثم قاموا بترجمة علوم المسلمين في الطب وغيره.
يقول كل من (ج. قراتان) و(شارلز سنجر) في كتابهما (السحر والطب عند الأنجلوسكسوني):
ومما لا يقبل الشك أن تأثير علماء العرب والمسلمين في الطب على أطباء أوروبا خلال القرن الحادي عشر الميلادي إلى القرن الرابع عشر الميلادي، لا يحتاج إلى برهان. والجدير بالذكر أن كثيراً من المنصفين من علماء أوروبا الغربية، يعترفون بما قدمه علماء العرب والمسلمين في العلوم، كما أن النظريات والأفكار الطبية صارت تدرس في جميع أنحاء المعمورة. ومن يحب أن يتفنن في حقل الطب بفروعه المختلفة، يلزمه إجادة اللغة العربية.
ويقول الأستاذ دريبر - المدرس بجامعة هارفارد بأمريكا-: إن جامعات المسلمين كانت مفتوحة للطلبة الأوروبيين الذين نزحوا إليها من بلادهم لطلب العلم، وكان ملوك أوروبا وأمراؤها يفدون على بلاد المسلمين ليعالجوا فيها. وأول مدرسة أنشئت للطب في أوروبا هي المدرسة التي أسسها العرب في (باليرم) من إيطاليا.
وهكذا يتضح لنا جليا المجهود الذي بذله الأطباء المسلمون الأوائل في سبيل تقدم الطب وازدهاره. ويظهر لنا الأثر الذي تركته هذه المجهودات في تثبيت قواعد الطب الحديث في العالم على أساس سليم قائم على العلم.
وكما يقول الدكتور إبراهيم المزيني فقد سجل تاريخ الإنسانية - بمداد من نور وتواتر - شهادات المنصفين هذا التأثير؛ إذ أنه في الوقت الذي ازدهر فيه علم الطب عند المسلمين وبلغ درجة عالية من التطور بالاكتشافات الطبية الرائدة والمؤلفات العلمية المهمة، وبما اشتهر به المسلمون من طرق مبتكرة في تشخيص الأمراض وطرق العلاج وصنع العقاقير والمركبات الطبية المتنوعة، وتطوير مجالي الجراحة والتشريح، والتوسع في بناء المستشفيات (البيمارستانات) والتفنن بها، فقد بقيت أوربا - وخاصة بين القرنين الأول والخامس الهجري (أي بين القرنين السابع والحادي عشر الميلادي) - في ظلام دامس يعتبر ما وصل إليه العلماء المسلمون في الطب خرافة ووهماً لا فائدة منهما.
ولم يتغير ذلك الاعتقاد إلا في عصر النهضة الأوروبية، أي نصف القرن الخامس عشر الميلادي. لذا اعتمدت معظم جامعات ومستشفيات أوروبا اعتماداً كليا على إنتاج علماء المسلمين.
ويشار هنا إلى أن أوروبا قد استمدت معارفها وعلومها من الحضارة الإسلامية، من خلال ثلاثة طرق رئيسة هي: بلاد الأندلس في الغرب الإسلامي، وجزيرة صقلية، والحروب الصليبية في الشرق الإسلامي.
وهناك طرق أخرى أقل تأثيراً من الطرق السابقة، تتمثل في الرحلات التي قام بها الأوروبيون إلى العالم الإسلامي والبعثات العلمية المرسلة من قبل ملوك أوروبا إلى الديار الإسلامية. وقد انتقل علم الطب شأنه شأن العلوم الأخرى إلى أوروبا عبر هذه الطرق جميعها.
الخلاصة
نفس المشاهد السابقة نجدها – تقريباً – اليوم لكن بشكل معكوس، حيث انقلبت الأحوال إلى الضد وصرنا نحن الذين ننقاد وراء كل ما هو غربي مادياً ومعنوياً.
والأسوأ من ذلك أننا نسعى في تقليدهم سعي الجاهل العاجز الذي لا هم له في حياته إلا إشباع الذات وتحصيل الملذات، بينما كانوا يتزودون من الثقافة والعلوم الإسلامية ليبنوا مجتمعاتهم.
إضافة إلى أن حضارتنا قامت على أسس شرعية صحيحة راسخة نقية، تهدف إلى إصلاح الناس جميعاً. أما فقد انحرف بحضارته عن مسار العلم النافع الذي جاءت به حضارتنا، ودخل في مسارات الإفساد والتفسخ والانحلال؛ لأنهم افتقروا إلى المبادئ والأسس الأخلاقية والشرعية التي تحافظ على المسار الصحيح للعلم.
وبعد أن انفصل المسلمون عن حضارتهم ولم يسلكوا طريق العلم الذي سلكه أسلافهم قل شأنهم وانهار مركزهم. ثم نظروا من حولهم فوجدوا الغرب قد سبقهم في العلم والمعرفة، فحاولوا أن يلحقوا بهم، ولكن دون تمييز بين الغث والسمين والنافع والضار..
ولكنهم عجزوا عن اللحاق به؛ لأنهم لم يدركوا منه إلا القليل من الفتات المخلوط بكثير من علل الثقافة الغربية وأمراضها.
ـــــــــــــــــــــــــــــ للعم الموضوع منقول من أجل الإفادة و فهم مكنون التاريخ
المصادر
- (الكامل في التاريخ)، ابن الأثير.
- (الأيوبيون بعد صلاح الدين)، د. علي محمد الصلاَّبي.
- مجلة (التاريخ العربي)، (انتقال العلوم الطبية عند المسلمين إلى أوربا وأثر ذلك في تطور علم الطب عند الأوروبيين)، الدكتور إبراهيم بن محمد الحمد المزيني.
- مجلة (التاريخ العربي)، (العلاقات السياسية والاقتصادية بين غرناطة وأرغون)، الدكتورة أحلام حسن مصطفى النقيب ووالدكتور مزاحم علاوي الشاهري.
:خلاصة المواضيع
|