توطئة:
الحمد لله الذي منَّ علينا بالمنن الجليلة، وأكرمنا كرامة فيها صفاتٌ جميلة، وأعظمها هي نعمة الإسلام، فيها سرّ سعادتنا في الدُّنيا والآخرة، ونصلِّي ونسلِّم على المبعوث رحمة للعالمين.
في هذا السياق نقِف وقفة إجلال مع عُلماء اختارَهم الله فرفَعُوا لواء العلم والمعرفة في بلاد تلمسان، الَّتي اشتهرت في التَّاريخ بثلَّة من العلماء والفقهاء، الَّذين سجَّلوا أسماءَهم بحروف من نور في سماء الحضارة العربيَّة الإسلاميَّة عبر العصور والسنين والدّهور، فكأنَّهم الدّرّ المنثور والتِّبْر المنشور في الكتاب المسطور والكون المنظور.
ففي هذه السَّماء سطعت أسماء كثيرة، أنارت الدروب، وأضاءت العقول، بالعلم النيِّر الذي هو نبراسٌ في يدي الإنسان ونبعُ العرفانِ والتطوُّر في شتَّى الميادين، وتسبح هذه الأنجمُ في فلكِ البحثِ والتَّنقيب لترسم الطريقَ المستقيم، وترفع الغبن عن العقول المتحجّرة التي تبحث عن مَن يسقيها بماء الحكمة، الَّتي هي نبع كل خير، ونبراس كل شرف.
من هنا وفي تلمسان، بلد الحضارة والقِيَم، يبزغ نجم عالِم ترعْرع في أحضان مغيلة، قبيلة من البربر استوطنتْ تلمسان ووهران والمغرب الأقصى، وهي فرْع من قبيلة صنهاجة، كبرى شعوب الأفارقة، يظهر في سنة 790 هـ / 1425 م أبو عبدالله، محمد بن عبدالكريم بن محمد المغيلي التلمساني، في أسرة عُرفت بالعِلْم والأخلاق الفاضلة.
فقد كان الابْنُ يرى طلاَّب العلم يتوافدون على والدِه عبدالكريم الَّذي اشتهر بالعلْم والورع والتَّقوى، فرَأَتْ عيْنا الطفل محمَّد الأب الوقور الَّذي يحترمه النَّاس، وكان يجلس معه يستمِع لكلامه الَّذي تتلقَّفه آذان المريدين بكلّ شغَف وحبّ، وعندما ينتهي الوالد مِنْ حلقتِه يَخرج الطلاَّب بكلِّ وقار واحتِرام وهُم يقبِّلون رأس العالِم وابنِه، ينظر لكلّ هذه المشاهد التي رسخت في مخيلتِه وسنراها فيما بعدُ تَكْبر معه، وتكون هي اللبنة النيّرة التي كوَّنت شخصيَّة هذا الطفل.
وظلَّ الطِّفل يتلقَّف العِلم من يدِ والدِه، الَّذي علَّمه قراءة القُرآن الكريم، وكانت مظاهر النبوغ والتفوُّق تبزغ في ملامحه، فيجلس يعْرض ما حفظه والأب يسمع ويلاحظ، وما إن يتمّ الطّفل القراءة فيُثني عليه الثناء الحسن فيزداد حَماس محمَّد على طلب العلم، والأخذ من شتى صنوفه، فصار قارئًا يُضرب به المثل في الحفظ وحُسْن التَّجويد وضبْط أحْكام التِّلاوة، وفي حفل تخرّج الطفل يحضر جَمع كبير من شتَّى البقاع، ويمتلئ المسجد عن آخره فيتقدَّم الأب بكلمة يرحّب فيها بالحضور، ويسأل الله أن يأْجرهم على تعَبِهم وتحمُّل أعباء السَّفر، ثمَّ جاء المتحدِّثون تتْرى، وأخيرًا جاء دوْر الابن محمَّد فألقى السَّلام، وبدأ بحمد الله، ثمَّ شرع في التّلاوة فأعجب الحضور بحلاوة صوتِه وحسن أدائه، وجاءت لحظة التَّكريم وانتهى الحفل البهيج.
وهكذا صار يعرف بالدَّاعية المصلح، والعالم والفقيه، والقارئ محمد بن عبدالكريم بن محمد المغيلي، الَّذي وصل إلى مملكة صنغاي بالنيجر، مرورًا ببلاد التكرور وكانو، بعد أن انتقل من تلمسان إلى واحات أدرار تمنطيط توات، وغيرها من القصور بالصحراء الإفريقية الشَّاسعة مجاهدًا في سبيل نشر الدَّعوة، وتنقية الإسلام ممَّا علق به من شوائب البِدَع والخزعبلات.
يُعتبر محمَّد العالِم رقم عِشْرين في سلالة المغيليين الَّتي تبتدئُ بإلياس المغيلي، وهو ذلك العالم البربري الَّذي اعتنق الإسلام، وحمل لواء الجهاد فكان له شرف المشاركة مع طارق بن زياد في فتح الأندلس، والدُه عبدالكريم اشتهر بالعلم والصلاح، كما أنَّ أمَّه اشتهرت بأنَّها سيّدة فاضلة تحب الفقراء والمساكين، وتنفق عليهم بسخاء، وقد قام هذان الوالدان - كما أسلفْنا - بتربيته وتنشِئَته تنشئة حسنة طيِّبة مباركة.
بين أحضان الأب الوقور:
لم يحفظ القُرآن الكريم على يد والدِه فقط، وإنَّما علَّمه أيضًا مبادئ العربيَّة من نحو وصرْف وبيان، كما قرأ عليه أيضًا موطَّأ الإمام مالك وكتاب ابن الحاجب الأصلي، وقد سأل والده في بداية دراستِه عن هذا الكتاب العظيم، عن سر تسميتِه بالموطَّأ، فذهب إليه مسرعًا فوجده جالسًا يعلّم طلابه العلم فانتظر حتَّى أنْهى كلامَه ثمَّ قال: يا أبت، عندي سؤال يحيّرني ولم أستطع الإجابة عنه؟ فقال الأب: ما هو السؤال الَّذي يحيرك يا بني؟ فقال الابن: لماذا سمَّى الإمام مالك كتابه بالموطأ، فقد حاولت أن أفهم ولم أستطع إلى ذلك سبيلاً؟
فقال الأب بكلّ وقار وتواضُع: يا بُنيَّ، إنَّ الموطَّأ هو واحدٌ من دواوين الإسلام العظيمة، وكتُبه الجليلة، يشتمِل على جُملة من الأحاديث المرْفوعة، والآثار الموقوفة من كلام الصحابة والتابعين ومن بعدهم، ثمَّ هو أيضًا يتضمَّن جملة من اجتِهادات المصنّف وفتاواه، وقد سمّي الموطَّأ بهذا الاسم لأنَّ مؤلفه وطَّأَهُ للنَّاس، بمعنى أنه هذَّبَه ومهَّدَه لهم.
وقد نُقِل - يا بنيّ - عن مالكٍ - رحِمه الله - أنَّه قال: عرضتُ كتابي هذا على سبعين فقيهًا من فُقهاء المدينة، فكلّهم واطَأَنِي عليه، فسمَّيتُه الموطَّأ.
وأمَّا سبب تأليفه: فقد ذُكر أنَّ أبا جعفر المنصور قال للإمام مالك: "يا مالك، اصنع للنَّاس كتابًا أحْمِلُهم عليه، فما أحدٌ اليوم أعلم منك"، فاستجاب الإمام مالك لطلبه، ولكنَّه رفض أن يُلزِم النَّاس جميعًا به.
وقد مكث - يا بنيَّ - الإمام مالك أربعين سنة يقرأ الموطَّأَ على الناس، فيزيد فيه وينقص ويُهذِّب، فكان التلاميذ يسمعونه منه أو يقرؤونه عليه خلال ذلك.
ففرِح الابن بهذه الإجابة الشَّافية الكافية، ثمَّ شكر أباه ثمَّ انصرف فرِحًا مبتهجًا بما سمع من الكلام المفيد.
ثمَّ انتقل بعدها ليدْرس عند الإمام الفقيه محمد بن أحمد بن عيسى المغيلي الشَّهير بالجلاب التلمساني (ت سنة 875 هـ)، والَّذي أخذ عنه بعض التَّفسير والقِراءات، ولقَّنه الفقه المالكي، فقد ذكر المغيلي أنَّه ختم عليه المدوَّنة مرَّتين، ومختصر خليل والفرائض من مختصر ابن الحاجب، والرسالة، وهكذا ظلَّ الابن يتنقَّل بين العلماء مُقتبسًا العلم تنقُّل النحلة بين الأزهار لتصنع الشَّهد الَّذي جعل ربُّنا فيه الشفاء لكلِّ سقيم.
ولمَّا بلغ أشُدَّه وبلغ الثَّلاثين من عُمره، قرَّر أن يتعلَّم علم التَّفسير ويتبحَّر فيه، فسمع بعلَم من أعلام تلمسان في ذلك الزَّمان، زمان الرقيّ والعلم والحضارة والسؤدد، حيث توجَّه إلى عبدالرَّحمن بن محمد بن أحمد بن عليّ بن يَحيى الحسني أبو يحيى التلمساني (826 وقيل 825 هـ)، وهو عالم بالتَّفسير، حافظ محدِّث من أكابر فقهاء المالكيَّة، قال عنه أحمد بابا في "نيل الابتهاج": "بلغ الغاية في العلم، والنّهاية في المعارف الإلهيَّة، وارتقى مراقي الزُّلفى، ورسخ قدمه في العلم، وناهيك بكلامه في أوَّل سورة الفتح، ولما وقف عليه أخوه عبدالله كتب عليه: وقفت على ما أوَّلتموه وفهمت ما أردتموه، فألفيتُه مبنيًّا على قواعد التَّحقيق والإيقان، مؤدِّيًا صحيح المعنى بوجْه الإبداع والإتْقان، بعد مطالعة كلام المفسّرين ومراجعة الأفاضل المتأخِّرين".
فأخذ عنه علم التَّفسير بجميع مدارسِه، حتَّى صار علمًا من أعلام التَّفسير، فأجازه الشَّيخ ورخَّص له التَّدريس.
لكن نهم محمَّد لا يزال كبيرًا، وشغفه بالعلم عظيمًا، فقرَّر الاستزادة من العلوم الأخرى؛ مثل: التصوّف والطِّب والفنون الأخرى، فتوَجَّه تلقاء محمَّد بن إبراهيم - بن يحيى حسب الونشريسي في المعيار - بن عبدالرحمن بن محمد بن عبدالله ابن الإمام أبي الفضل التلمساني (ت 845 هـ)، عالم بالتَّفسير والفقه مشارك في علوم الأدب والطب والتصوُّف مِنْ أهْل تلمسان.
قال عنه السخاوي في "الضوء اللامع": "ارتحل في سنة عشر وثمانمائة فأقام بتونس شهرَيْن، ثمَّ قدم القاهرة فحجَّ منها وعاد إليها، ثم سافر إلى الشام فزار القدس، وتزاحم عليه النَّاس بدمشق حين علموا فضله وأجلوه".
وفي هذه المرحلة ظهرتْ موهبة جديدة تتمثَّل في عبقرية تدريس اللّغة العربية وتحبيبها إلى النَّاس، فقد استطاع أن يدرسها وينشرها في جُملةٍ من البلدان الإفريقيَّة بطريقة بديعة وجميلة، يشهد له بذلك كلّ علماء إفريقيا الَّذين تَتَلْمذوا على يديه.
انتقل بعدها إلى بجاية حيث أخذ عن علمائها التَّفسير والحديث الشَّريف والفقه، وكانت بجاية حينئذٍ إحدى حواضر العِلْم والثَّقافة العربيَّة الإسلامية، وكيف لا يقْصدها وقد أصبحت قبلة العلم والعلماء؛ إذ كانت هذه الحاضرة قد استعانت بعلماء المشرق في نشْر العلم، ثمَّ سرعان ما أنجبت وخرَّجت علماء كثيرين سار بذكرهم الرّكبان، ليس فقط في المغرب الأوسط أو المغرب الكبير، بل وذاع صيتهم في المشرق العربي؛ حيث تولَّى بعضُهم التدريس والقضاء في الشَّام وبغداد ومصر.
انكبَّ المغيلي على الدِّراسة في بجاية، تلقَّى خلالها علوم جمَّة على يد علماء أجلاء، أمثال:
• الشيخ أحمد بن إبراهيم البجائي (ت سنة 840هـ /1434م)، إمام جليل، اشتهر بالتفسير والفقه، تتلمذ له المفسر المشهور الثعالبي.
• منصور بن علي بن عثمان أبو علي الزواوي المنجلاتي، من فقهاء وعلماء بجاية، ومن ذوي العصبيَّة والقوَّة فيها، وكان من أصحاب الرَّأي والتدخّل في الأحداث السياسيَّة لمكانته المرْموقة، قال عنه السَّخاوي في "الضوء اللامع": "رأيتُ مَن قال: إنَّه الزَّواوي العالم الشهير، وأنَّه مات بتونس 846 هـ".
كما أخذ عن غيرهم من العلماء، منهم: يحيى بن نذير بن عتيق، أبو زكريا، التدلسي، القاضي، من كبار فقهاء المالكيَّة، من أهل تدلس، تعلم بتلمسان وولي القضاء بتوات، أخذ عنه محمد بن عبدالكريم المغيلي، وأبو العباس الوغليسي، ويذكر المغيلي أنَّه: قرأ الصحيحَين، والسنن وموطأ الإمام مالك، والفقه المالكي".
ولَم يكتفِ عبد الكريم المغيلي بما تحصَّل عليه من علوم في تلمسان وبجاية، بل راح يبحث الاستزادة من رحيق المعرفة، فتوجَّه مباشرة إلى الجزائر؛ حيث اتَّصل بالمفَسِّر المشهور عبدالرحمن بن محمد بن مخلوف بن طلحة الثَّعالبي، صاحب التفسير المشهور "الجواهر الحسان"، ولازمه ملازمة لصيقة، وقد أعجب الإمام الثعالبي بالطَّالب المغيلي وبفِطْنته وذكائه، فزوَّجه ابنته اعترافًا منْه بعلمه وفقهه وأدبه.
العلماء في عصر المغيلي:
قدَّر الله أن يعيش الإمام المغيلي في فترة شهِدت بروز العديد من المفسّرين والعلماء والفُقَهاء والمؤرِّخين والأدباء والشّعراء، الكثير منهم خالطه واجتمع به وتبادَل معه مجالس العلم والأدب، نذكُر منهم العلاَّمة قاسم بن سعيد بن محمد العقباني، المتوفى سنة 837 هـ، والعلامة محمد بن أحمد بن مرزوق، المتوفى سنة 842 هـ، والعالم الصوفي إبراهيم التازي، المتوفى سنة 866 هـ، والعلامة الفقيه محمَّد بن يحيى التّلمساني المعروف بابن الحابك، المتوفَّى سنة 867 هـ، والعلامة محمد بن أبي القاسم بن محمد بن يوسف بن عمرو بن شعيب السنوسي، المتوفَّى سنة 895 هـ، والعلامة أحمد بن زكري التلمساني، المتوفى سنة 899 هـ، وابن مرزوق الكفيف، المتوفَّى سنة 901 هـ، والعلامة أحمد ين يحيى الونشريسي، المتوفَّى 914 هـ وغيرهم، ممَّا جعله يستفيد فائدة عظيمة من عِلْمهم ونصائحهم وإرشاداتِهم الَّتي سنرى أثرها في دعوته فيما بعد.
يشبّهه الكثير من المؤرّخين والمترْجمين الَّذين كتبوا عنه وعن جهادِه ودفاعه لنشْر الإسلام الصَّحيح ومحاربة البدَع والمنكرات بشيخ الإسلام ابن تيميَّة نفسِه، الَّذي تأثر به وبأفكاره وكتبه ورسائله، الَّتي كانت تصل إلى الشطر الغربي من العالم الإسلامي.
"وهو ما أجاب عنْه الدكتور عمار هلال في مقالة له نشرها بجريدة المجاهد الجزائرية بتاريخ 20 /06 /1985 م؛ حيث ذكر أنَّه: "في المؤلَّفات الجزائريَّة التي لها علاقة بالعلوم الإسلاميَّة: فقه وتفسير وحديث... إلخ في القرْن الخامس عشر الميلادي، هل نَجد أيَّ إشارة إلى ابن تيمية أو إلى أعماله؟ ليس من السَّهل الإجابة عن هذا السؤال، ولكن ما يسمح لنا بالاعتقاد هو أنَّ المغيلي نفَى نفسَه إلى الصحراء الجزائريَّة؛ حيث كانت المواصلات حينئذٍ من الصّعوبة بمكان، ومع هذا فإنَّ فتاتًا من المعلومات الَّتي وصلتنا من تلك المنطقة الواسعة للشَّرق الأوسط تجعلُنا نفكّر "في التشابه الكبير بين ابن تيمية ومحمد بن عبدالكريم المغيلي، المهم هو أنَّ كلاًّ منهما قد قام بعمله بدافع حماسته للإسلام، حتَّى لو أنَّهما لم يلتقيا، والمهمّ كذلك هو أنَّ الرسالة التي أرادا نقْلها وصلت تمامًا إلى الذين أرادا استقطابَهم ليصبحوا مؤمنين صالحين"، وكانت له مراسلات ومناظرات مع الإمام السيوطي ، نقلها ابن مريم في كتابه: "البستان في ذِكْر الأوْلياء والعلماء بتلمسان" أثناء ترجمته للمغيلي.
الإمام المصلح ونازلة توات:
نقم الإمام المغيلي وانزعج من سلوك سلاطين تلك الفترة، الَّذين كانوا يَحكمون مملكة تلمسان وبجاية، وبعد سخْطه على أفعالهم وخاصَّة على الكيفيَّة التي يعالجون بها رعاياهم، وبعد أن أثَّر فيه سكوت أو تغاضي المثقَّفين ورجال العلم، هاجر الإمام إلى منطقة تمنطيط بتوات أدرار، وكان لومه على السَّلاطين بسبب "عدم امتثالهم لا في حياتِهم الشَّخصية ولا في كيفيَّة حكمهم إلى قواعد الإسلام".
إنَّ قصور توات وتيكرارين تمنطيط وأسملال وأولف وزاوية كونتة وفتوغيل، كلّها أسماء تشهد لهذا الإمام زُهْدَه ودعوته وعلمه وورعه، هذه المناطق التي زارها صال وجال فيها يقوم بمهمَّة الدَّعوة إلى الله والإصلاح، ونشْر المبادئ الإسلاميَّة الصَّحيحة النَّقيَّة كما عرفها السَّلف الصَّالح من الصَّحابة والتَّابعين - رضوان الله عليهم أجمعين - وقد احتضنتْه القبيلة العربيَّة الأصيلة (بني سعيد)، حيث عاش بينهم كواحد منهم يحترمونه ويبجلونه، ويستمعون إلى دروسه ويتبعون دعوته، حتَّى بدأ يكتشف دسائس اليهود الَّذين كانوا يعيشون في المنطقة منذ زمن بعيد، وكانوا يستحْوذون على السلطة الاقتِصاديَّة والموارد الماليَّة، وأفسدوا الأخلاق والذِّمَم - كما هي عادتهم دائمًا - حيث إنَّهم كانوا يتحكَّمون في أكبر كنزٍ في الصَّحراء ألا وهو: الماء، كما أنَّهم قاموا ببناء معبد لهم في واحة تمنطيط خارقين بذلك العهود التي بيْنهم وبين المسلمين، وقد شنَّ عليهم المغيلي حربًا شعواء لا هوادة فيها، لوضع حدّ نهائي لتجاوزاتهم واستهانتهم بالدّين الإسلامي، لقد ضيق عليهم الخناق وبذلك ظهرت ما يسمَّى "بنازلة توات".
وأصل المشكلة التي طرحت على الفقيه الإمام المغيلي، هو أنَّ بعض المسلمين من "توات"، تلك الناحية المتواجدة في وسط الصحراء الجزائرية، والتي تضمّ عددًا من الواحات أو القصور كما يسميها سكَّان الجنوب، وأهمّها في القديم واحة "تمنطيط"، وهي لا تزال موجودة إلى يومنا هذا، وقد تفوَّقت عليها في العصر الحاضر مدينة أدرار، وتمنطيط هي اليوم ضمن ولاية أدرار.
قلت: إنَّ بعض المسلمين من توات قد أنكروا على اليهود القاطنين في المنطقة سلوكَهم، ومخالفتهم للقوانين، وللتراتيب الَّتي حدَّدها لهم الفقهاء المسلمون على مرِّ العصور، وتفاقمت الأزمة بعد أن شيَّد أولئك السكَّان من اليهود كنيسة جديدة لهم في "تمنطيط"، وقد أثار هذا الخبر ثائرةَ المسلمين، الَّذين اعتبروا تشْييد معبد جديد مخالفة صريحة للشَّريعة التي تسمح للذميين بإصلاح معابدهم القديمة فقط، وتحْظر عليهم بناء معابد جديدة، غير أنَّ بعض العلماء المحلّيِّين - وعلى رأسهم قاضي المدينة - خالفوا أولئِك النَّفر من المسلمين وقالوا: إنَّ اليهود ذميون، لهم ما لأهل الذمَّة من الحقوق المنصوص عليها في كتب الفقه.
وقد احتجَّ كلّ فريق بآيات قرآنيَّة كريمة، وبأحاديث نبويَّة شريفة، وبأقوال السَّلف من الأئمَّة والفقهاء، غير أنَّ كلا الفريقين لم يقْوَ على فرض آرائه، وعلى استِمالة عامَّة النَّاس إليه، وكان في مقدّمة الناقمين على اليهود: العالم الكبير محمَّد بن عبدالكريم المغيلي.
وقد اشتهر هذا الفقيه بنشاطه، وبحيويَّته في الأمر بالمعروف، والنَّهي عن المنكر، وفي نشْر تعاليم الإسلام ومحاربة البِدَع والخرافات خاصَّة ببلاد الزّنوج - كما سنرى - حيث أصدر فتوى أكَّد من خلالها: "أنَّ سيطرة اليهود على عموم نواحي الحياة في تلك الديار، وبخاصَّة النواحي الاقتصادية، يتنافى مع مبدأ الذّلَّة والصغار التي اشترطها الإسلام مقابل حِمايتهم وعيشهم بين ظهراني المسلمين، وعليه؛ فإنَّ هذا التفوق لليهود وإمساكهم بزمام السلطة من خلال سيطرتهم على التجارة، يستوجب - في نظر هذا العالم - محاربتَهم وهدْم كنائسهم وكسْر شوكتهم ليعودوا إلى الذّل والصَّغار".
وقد أثارت هذه الفتوى من قبل الإمام المغيلي ردودَ فعل كثيرة في أوساط معاصريه من العلماء، بين مؤيّد ومعارض، ولمَّا حمي الوطيس بين الفريق المناصر لمحمَّد بن عبدالكريم المغيلي، والفريق المعارض له، واشتدَّ الخلاف بين المسلمين، راسل كِلا الفريقين أكبر علماء العصر في تلمسان، وفي فاس، وفي تونس، وكانت المدُن الثَّلاث العواصم السياسيَّة، والدينيَّة، والثَّقافيَّة للأجزاء الثَّلاثة من المغرب الإسلامي.
قلت: راسل الفريقانِ كبارَ علماء العصر، يَستفْتيانِهم في القضيَّة، وكان كلّ فريق يأمل تأْييد موقفه ضدَّ موقف الفريق الآخر، المتَّهم بمخالفة تعاليم الشَّريعة.
وقد أوْرد الإمام الفقيه أحمد الونشريسي في موسوعته الفقهيَّة "المعيار المعرب" مختلف الفتاوى التي تلقَّاها الفريقان، فكان ممَّن عارضوا المغيلي علماء من تلمسان وفاس، وعلى رأسِهم الفقيه عبدالرحمن بن يحيى بن محمد بن صالح العصنوني، المعروف بشرحه على التلْمسانيَّة، وقاضي توات أبو محمد عبدالله بن أبي بكر الأسنوني.
أمَّا العلماء المؤيدون فقد كان على رأسهم الأئمَّة الأعلام: محمَّد بن عبدالله بن عبدالجليل التنسي، مؤلف الكتاب في ضبط القُرآن الكريم "الطراز على ضبط الخراز"، ومحمَّد بن يوسف السنوسي، أبو عبدالله التلمساني الحسني عالم تلمسان وصالحها، وأحمد بن محمد بن زكري المانوي أبو العباس المغراوي التلمساني، مفتي تلمسان في زمنه.
ويقول المؤرخون: "إنَّه فور وصول جواب هؤلاء العُلماء لواحة تمنطيط، حمل المغيلي وأنصاره السلاح، وانقضُّوا على كنائس اليهود، فهدموها دون تأخير"!
رحلة دعوة وإصلاح وتأليف في الصحراء:
بعد انتِصاره على اليهود - كما رأينا - قام [كما جاء في بحث بعنوان: "ملامح من التأثير المغربي في الحركة الإصلاحية في النيجر - للدّكتور عبدالعلي الودغيري رئيس الجامعة الإسلامية بالنيجر] - هذا الدَّاعية الكبير برحلته الطَّويلة إلى مناطق السودان الغربي، وظلَّ مشتغلاً بالدَّعوة والوعظ والتدريس والقضاء والفُتْيا، وبَذَل النُّصح لأمرائها وأولي الأمر فيها، وطاف بعدَد من عواصمها وأقاليمِها، فزار كانو وكَشنَة في شمال نيجيريا، وكاغو (أو جاو) (الواقعة في مالي حاليًّا)، وتَكَدَّة من منطقة أهير (التابعة للنيجر حاليًّا)، وغيرها من البلاد الواقعة بين نهري السنغال والنيجر.
ويقول بول مارتي: "ونحن نعلَم - حسبما هو متداوَل من معلومات - أنَّ الإسلام دخَل إلى بلاد الجرما والبلاد المجاوِرة إلى تساوة (Tessaoua)، وزندر (Zinder) بواسطة الشَّريف الكبير محمَّد بن عبدالكريم المغيلي، أو بالأحرى بواسطة تلاميذه المباشرين في القرن الخامس عشر"، إلى أن يقول: "لقد هبط المغيلي مع نهر النيجر إلى ناحية ساي (Saye)(1) [منطقة "ساي" هذه هي التي توجد بها الجامعة الإسلامية بالنيجر حاليًّا، وتبعد عن نيامي بحوالي 50 كم].
ويُضيف قائلاً: "وأرسل بعثات من قبله إلى بلاد جرما جندا (Djermagenda)، وربَّما إلى الشَّرق أيضًا... وقد استُقبلتْ وفادة المغيلي إلى هذه المناطق بحفاوة بالغة، وقرَّبه أمراؤها وملوكها وجعلوا منه مستشارَهم الخاص ومرجعهم الفقهي الأعلى، وكتب لهم رسائل ووصايا وفتاوى في أمور الحكم والدَّولة والسياسة الشَّرعيَّة، منها:
أ)"مجموعة في أمور الإمارة وسياسة الدَّولة"، الَّتي ألَّفها لأمير كانو محمَّد بن يعقوب المعروف برمْفت، وهي الَّتي طبعت بعنوان مخترع: "تاج الدين فيما يجب على الملوك والسلاطين" [طبعت هذه المجموعة طبعات متعدّدة، وترجمت إلى الإنجليزيَّة، وآخر طبعاتها صدرت سنة 1994 م، عن دار ابن حزم (بيروت)، بتحْقيق محمَّد خير رمضان يوسف].
وقد سلك فيها مسلك أسلافه من عُلماء المسلمين الَّذين ألَّفوا كتبًا في نصح الملوك وإرشاد السَّلاطين؛ مثل: أبي بكر الطرطوشي في "سراج الملوك"، والماوردي في الكتاب المنسوب إليه باسم: "نصيحة الملوك"، وكتابه المشهور "الأحكام السلطانية"، والغزالي في كتابه "التبر المسبوك في نصيحة الملوك"، وابن الأزرق الأندلسي في: "بدائع السلك في طبائع الملك"، والحميدي في "الذهب المسبوك في وعظ الملوك" وغيرها ممَّا هو معروف.
ب)ثمَّ كتب للأمير رَمْفَا محمد بن يعقوب لأمير كانو وصيَّة أخرى في "ما يجوز للحكَّام في ردع النَّاس عن الحرام" [ترجمها ريشار بلمر (R. Palmer) إلى الإنجليزيَّة سنة 1914 م، ثمَّ نشرها الألوري في كتابه "الإسلام في نيجيريا"، وضمّنت أيضًا في كتاب "ضياء السياسات" لعبدالله بن فودي الَّذي نشره د. أحمد كاني سنة 1988م.
ج)ثمَّ مكث مدَّة عند السلطان محمد بن أبي بكر التوري المعروف بالحاج أسكيا أمير مملكة سنغاي، وألَّف له أجوبة عن أسئِلة كثيرة وجَّهها إليه، وهي المجموعة الَّتي عُرفت باسم: "أسئِلة أسكيا وأجوبة المغيلي" ["أسئلة الأسكيا (كذا) وأجوبة المغيلي"، تقديم وتحقيق الأستاذ عبدالقادر زبادية، سلسلة ذخائر المغرب العربي]؛ فكانتْ بمثابة الحجَّة الشَّرعية الدَّامغة التي استعملها أسكيا في توطيد دعائم ملكه ومواجهة خصومه".
وكان المغيلي بجانب ثقافته الدينيَّة الواسعة وقيامه بأمور الوعظ والإرشاد، ومعرفته بأمور السياسة الشَّرعيَّة، يحترم رجال الطرق الصوفيَّة، خاصَّة منهم أولئِك الَّذين يبتعدون عن الدروشة والخزعبلات، على الطريقة القادريَّة، وكثير من الباحثين يعتقدون أنَّ له دورًا كبيرًا في التَّعريف بالطَّريقة القادرية التي كان يحترم شيوخها، ومنهم أستاذه وصهره المفسّر الثعالبي الَّذي عرَّفه عليها، ويدعو لهم بالنَّصر والنجاح؛ ولذلك انتشرت في السودان.
صدى هذه الدعوة في الصحراء:
إنَّ المتفق عليه بين جميع الدَّارسين الذين تناولوا شخصيَّة المغيلي من القدامى والمحدثين ومن العرب والغربيّين، هو أنَّ الرَّجل كان له تأثير قوي وملموس جدًّا، ظلَّ صداه يتردَّد بعده قرونًا طويلة، وهذا يلخّصه الشَّيخ الأمين محمَّد عوض الله بقوله في كتابه "العلاقات بين المغرب الأقصى والسودان الغربي في عهد السَّلْطنتَين الإسلاميتين مالي وسنغاي":
"ونستطيع أن نؤكّد - بناء على النصوص السابقة - أنَّ الدَّور الذي قام به العالم الجليل المغيلي لا يُدانيه أي دور قام به عالم مغربي في السودان الغربي؛ فقد ترك أثرًا إسلاميًّا كبيرًا، وقام بتصْحيح مفاهيم كثيرة كانتْ مغلوطة في أذْهان العامَّة والسَّلاطين".
ويقول الدّكتور شيخو أحمد سعيد غلادنثي، وهو أحد أبرز المثقَّفين والمهتمّين بالتراث الإسلامي في نيجيريا، ومن أبناء مدينة كانو بالذَّات، متحدّثًا عن زيارة المغيلي لمدينته في كتابه "حركة اللغة العربية وآدابها بنيجيريا"، ويذكر هذا المؤلّف أنَّ أحفاد المغيلي في كانو ما يزالون إلى اليوم يحضُرون مجلس أمير كانو، ويكونون في حاشيته: "ولقد كان لهذه الزيارة التي قام بها المغيلي إلى كانو صدى كبير، ونتائج عظيمة تركت أثرًا واضحًا لا في كانو فحسب، ولكن في ولايات الهوسا جميعًا؛ لأنَّ انتشار الإسلام في كانو أدَّى إلى انتشاره في الولايات الأخرى [من نيجريا]، ومن ذلك الوقت نستطيع أن نقول: إنَّ ولاية كانو أصبحت ولاية إسلاميَّة حقًّا، وبدأت بعدئذٍ تلعب دورًا هائلاً في خدمة الثَّقافة الإسلاميَّة في الولايات الأخرى".
ويذكر هذا المؤلّف إضافة إلى ذلك بأنَّ أحفاد المغيلي في "كانو" ما يزالون إلى اليوم يحضُرون مجلس أمير كانو، ويكونون في حاشيته.
ولمَّا أرَّخ المرحوم الشيخ آدم الألوري لحركة الأدب واللّغة العربيّين في نيجيريا في كتابه الذي سماه "مصباح الدراسات الأدبية في الديار النيجيرية"، أشاد بدور الإمام المغيلي الفعَّال في ترقية العلوم العربيَّة والثقافيَّة الإسلاميَّة، واعترف بتأثيره الكبير في هذه الناحية، ممَّا جعله يسمِّي قسمًا من الخمسة أدوار الَّتي عرفتها عصور الأدب العربي في نيجيريا منذ قيام هذا الأدب فيها إلى العصر الحاضر، قُلتُ: يسميه بعصر المغيلي، وهذه الأدوار رتَّبها كالتَّالي:
1- العصر البرناوي - عصر ظهور الإسلام في نيجيريا، (من القرن الخامس إلى السابع الهجري).
2- العصر الونغري (من القرْن السَّابع إلى القرن التاسع).
3- عصر المغيلي (من القرن التَّاسع إلى القرْن الحادي عشر الهجري).
4- العصر الفلاني (يبدأ بظهور ابن فودي وقيام دولته إلى سقوطها في بداية القرن الحالي).
5- العصر الإنجليزي (في القرن العشرين).
ثمَّ يجعل من نصّ بعض فتاوى المغيلي الواردة في أجوبته لأسئِلة أسكيا، نموذجًا لأسلوب الكتابة العربيَّة في هذا العصر الأدبي الَّذي سمَّاه بالعصر المغيلي.
وأخيرًا يختم المرْحوم الألوري في كتابه المشار إليه شهادتَه في حقّ المغيلي بالقول: "فقد استفادت البلاد منه كثيرًا، وآثاره كثيرة في ميادين عديدة واضحة ملْموسة لكلّ صغير وكبير، في الحكم والسياسة والعلم والأدب... ولقد تعلَّم منه الكثيرون والكثيرون من علماء هذه البلاد، واتَّصل بسلاطين كانو وكَشِنَة وأكذر وتَكَد، ووضع لهم وصايا سياسيَّة على القواعِد الشَّرعيَّة، وهي محفوظة في الدَّوائر الحكوميَّة، ومعمول بها في الأوْساط الرَّسميَّة".
تأثيره في الحركات الإصلاحيَّة والدعويَّة:
لقد أُنجزت أبحاث تاريخيَّة عن تأثير هذا الإمام في الحركات الإصلاحية والدعوية في الصحراء، خاصَّة بعد إنشاء مركز أحمد بابا سنة 1973 م، وهو يحتوى على الكثير من آثاره ومخطوطاته، وكانت هذه المخطوطات والرسائل موضوع رسالة دكتوراه قدَّمها في جامعة لندن النيجيري حسن إبراهيم كوارزو سنة 1972 م بلندن - دكتور حاليًّا وأستاذ كرسي بغانا - تحت إشراف البروفيسور الإنجليزي جوهن هوناك الَّذي أصبح رئيسًا لمركز الدِّراسات الإفريقية في مدينة وسترن الجديدة بالولايات المتحدة الأمريكيَّة، تحت عنوان: "The Life and Teaching of Al-Maghali"
لقد ظلَّ تأثير المغيلي هذا الَّذي تحدَّثنا عنه محفوظًا في ذاكرة الأجيال من أبناء السودان الغربيّ عمومًا، ونيجيريا على الخصوص، وظلَّت أعماله وآثاره المكتوبة والرّوايات الشفويَّة المنقولة عنه يحفظها العلماء ويتداولُها أهل الإصلاح والسياسة ورجال الدَّعوة جيلاً بعد آخر، حتَّى إنَّنا لا نكاد نجِد مؤلّفًا من مؤلَّفات علماء السّودان والنيجر ونيجيريا والقائمين بالدَّعوة والإرشاد في هذه البلدان، والمؤرّخين للحركات الإسلامية فيها - يخلو من الإشارة للإمام المغيلي والنَّقل عنه والرّجوع إلى وصاياه وفتاواه ورسائله، والاحتِجاج بأقواله وآرائه في تدْعيم دعوتهم وإسناد الأفكار الَّتي تضمَّنتْها حركتهم الجهاديَّة والإصلاحيَّة والدعويَّة، حيث كانوا يواجهون خصومهم وما يقيمونه في وجههم من حملات التشكيك والتشويش في العديد من القضايا الدينية والدنيوية بفتاوى الإمام المغيلي وكتاباته، بما لها في نفوس الجميع من الإجلال والإكبار؛ فهي الحجَّة الدَّامغة من بين الحجج التي يتَّكئون عليها ويسوقونها للاحتجاج عليهم، ومجادلتهم في مجالس المناظرات والمناقشات والمُطارحات السياسيَّة والدّينيَّة.
وعلى هذا؛ فإنَّ تأْثير المغيلي في عُلماء وفقهاء ودعاة إفريقيا الغربيَّة والشَّرقيَّة لا يمكن حصْره في مجرَّد النقول الكثيرة التي نجِدُها تتردَّد في جلّ كتاباتهم، بل لقد تجاوز ذلك إلى اقتِدائهم بسيرته وطريقته في ردْع البدع ومنهجه في الدَّعوة، وإلى العمل بآرائه، والاقتداء بأفكاره، واستعمالها في تدْعيم مواقفهم ومجادلة خصومهم، وكثيرٌ من الفصول والرَّسائل التي كتبها هؤلاء العلماء والدّعاة ما هي إلاَّ تكرار أو شرْح أو تلخيص أو تعليق أو إعادة إنتاج لأفكار المغيلي وكتاباته، وترْداد لمقولاته وآرائه.
ويُمكن أن نجزم بأنَّ تأثير الإمام المغيلي تعدَّى إلى الحركات الإصلاحيَّة والدعويَّة حتَّى أواسط إفريقيا، من خلال آثاره وفتاواه ورسائله، ووصاياه التي ورثها من ملوك وعلماء السودان، ومن خلال غيرته على الإسْلام والدِّفاع عن بيضته باللّسان، ثمَّ باليد، ثمَّ بشهْر السلاح.
نفائس ما خلف المغيلي من آثار:
إلى جانب الكتب والرَّسائل التي ذكرها الدّكتور عبد العلي الودغيري رئيس الجامعة الإسلاميَّة بالنيجر، وهي:
• "تاج الدين فيما يجب على الملوك والسلاطين".
• "ما يجوز للحكَّام في ردْع الناس عن الحرام".
•" أسئِلة أسكيا وأجوبة المغيلي".
فهناك من المؤرّخين من أوْصل مؤلَّفات الإمام المغيلي إلى أكثرَ من ثلاثين كتابًا ورسالة، أذكر منها:
•" البدر المنير في علوم التَّفسير".
• "تفسير سورة الفاتحة".
• "مصباح الأرواح في أصول الفلاح"، وهي الَّتي ضمَّنها فتاواه، ومنها فتواه في نازلة توات [وقد حقَّقها ونشرها الأستاذ رابح بونار - رحمه الله - في سلسلة ذخائر المغرب العربي، طبعة الشَّركة الوطنية للنشر والتوزيع - الجزائر سنة 1968م]، وعرفت في بعض المصادر باسم: "تأليف فيما يجب على المسلمين من اجتِناب الكفَّار".
• "التعريف بما يجب على الملوك".
• "أحكام أهل الذّمَّة".
• "تنبيه الغافلين عن مكْر الملابسين بدعاوى مقامات العارفين".
• شرح مختصر خليل سمَّاه "مغني النبيل".
• "مختصر تلْخيص المفاتيح".
• "شرح بيوع الأجل من كتاب ابن الحاجب".
• " كتاب فتح المتين".
• "مفتاح النظر، في علم الحديث"، وهو شرح وإضافة لِما كتبه الإمام النَّووي في كتابه "التقريب".
• "منح الوهَّاب في ردّ الفكر إلى الصَّواب" ، منظومة في المنطق، له شرْح عليْها سماه:
• " إمناح الأحباب من منح الوهاب".
"مناظرة بينه وبين الشَّيخ السنوسي محمد بن يوسف، في التَّوحيد"، مخطوط رقم: 22 ضمن مجموع بخزانة القرويين.
• "حاشية على خليل".
• "شرح على جمل الخونجي".
• وله نظم، منه قصيدة عارض بها البردة، وغير ذلك من الأعمال الكبيرة الَّتي ......
رحلته إلى الحج وعودته إلى منطقة توات ووفاته:
قرَّر الشيخ المغيلي أن يقوم بأداء فريضة الحجّ، فاستعدَّ وبدأ رحلته نحو البقاع المقدَّسة، وفي كلّ الأماكن التي مرَّ بها كان يلتقي بالعُلماء فيُكرمونه وينتفعون بعلمه الجمّ، فكانت تُعقد له جلسات في كلّ من تونس وليبيا ومصْر، حتَّى وصل إلى المدينة المنوَّرة فاستقرَّ بها، ثمَّ اتَّجه نحو مكَّة عن طريق (ذو الحليفة)، ودرس النَّاس، ولمَّا انتهى من أداء فريضة الحجّ جلس في مكَّة يدرس النَّاس ويحتكّ بعلماء العالم الإسلامي الذين قصدوا الحجَّ في ذلك العام، ثمَّ عاد بعدها ليستقرَّ بمدينة توات، خاصَّة بعد أن قتل اليهود ولدَه البكر عبدالجبار انتقامًا من والده، الَّذي ضيَّق عليهم وقهرهم وأذلَّهم، بعد عودته إلى توات قصده طلاَّب العلم والعلماء فلم يبخلْ عليهم بعِلْمه وفقهه رغْم كبر سنِّه، وبقِي وفيًّا لرسالته في الدَّعوة والإصلاح إلى وفاتِه - رحمه الله - سنة 909 هـ - وسنة الوفاة هذه يشكّ فيها بعض المؤرّخين، والله أعلم - ودفن في بلدية زاوية كونتة في أدرار، رحمه الله تعالى وجزاه بكلّ خير.
ويقال: "إنَّ بعض اليهود مشى لقبره فبال عليه، فعمِي مكانه، وفي ذكرى تخليد الشَّيخ - رحمه الله - أقامت مدينة أدرار سنة 1985 م أوَّل مهرجان ثقافي للتَّعريف بتاريخ المنطقة، وأُلْقِيت فيه محاضرات قيَّمة، منها محاضرة للمحقّق الشَّيخ المهدي بوعبدلي - رحمه الله - ونشرتْها مجلة الأصالة، ترجم للإمام المغيلي حيثُ ذكر مآثر الشَّيخ ومناقبه وأعماله العظيمة، الَّتي هي فخر لكلّ جزائري وجزائريَّة.
ولا يزال قبرُه موجودًا إلى يومنا هذا في (كونته) ومدرسته وبيته، وقد بقيت آثاره العظيمة التي خلَّفها تتناقلها الأجيال وعائلته العظيمة.
وصدق الشَّاعر في قوله:
وَمَا مِنْ كَاتِبٍ إِلاَّ سَيَفْنَى*** وَيَبْقَى الدَّهْرَ مَا كَتَبَتْ يَدَاهُ
فَلا تَكْتُبْ بِكَفِّكَ غَيْرَ شَيْءٍ*** يَسُرُّكَ فِي القِيَامَةِ أَنْ تَرَاهُ
ومَن كُتِب له زيارة (كونته) سيرى كلّ ما تحدّث عنه، فرحِم الله الشيخ محمد بن عبدالكريم المغيلي وجميع علماء الجزائر عبر العصور.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق